كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إن الأدلة العلمية تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزاً كاملاً عن تعليل نشأة الحياة، بما يلزم لهذه النشأة- وللنمو والبقاء والتنوع بعدها- من موافقات لا تحصى في تصميم الكون.. منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق، ووراءها من نوعها كثير. فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم. الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والذي خلق كل شيء فقدره تقديراً..
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}..
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه. تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطاً بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم:
{لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}..
ومتاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم.. كانوا كذلك وما يزالون.
تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة.. وتبقى القاعدة ثابتة: قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر.. سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر. ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة، فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله. ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق. فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله..
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية، لا في صورة نظرية ولكن في صورة واقعية.. صورة تتجلى من ورائها يد المبدع، وتقديره، ورحمته، وتدبيره. صورة مؤثرة في العقل والقلب، موحية للبصيرة والوعي، دافعة إلى التدبر والتذكر، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة.. لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي:
{قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}..
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها.. كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم.. فالاهتداء- كما قلنا- هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية، وفي ظلمات العقل والضمير.. والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى؛ وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم..
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة.. اللمسة في ذات النفس البشرية. النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه والحقيقة في الذكر والأنثى. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة. فنفسٌ هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى.. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار. فإذا أجناس وألوان؛ وإذا شيات ولغات؛ وإذا شعوب وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة.
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
فالفقه هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة، التي تنبثق منها النماذج والأنماط. ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث- في عالم الإنسان- لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار. ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ إنسانيتهم وتجعلهم أكفاء للحياة الإنسانية!
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات- فهي في حاجة إلى بحث متخصص- ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكراً أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الإنات دائماً لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها.
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكراً أو أنثى، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله. لا سلطان لأحد عليه إلا الله..
هذا القدَر الذي يجريه الله في كل مرة، فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثاً، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكوراً. فلا يقع اختلال- على مستوى البشرية كلها- في هذا التوازن. الذي عن طريقه يتم الإخصاب والإكثار، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته.. ذلك أن الإخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور.. ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى؛ إنما الغاية- التي تميز الإنسان من الحيوان- هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى.. لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به. وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها الإنساني الخاص- فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان- والدور الإنساني الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جداً مما تحتاج إليه طفولة الحيوان!
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره.. ولكن لقوم يفقهون:
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}..
أما المطموسون المحجوبون.. وفي أولهم أصحاب العلمية الذين يسخرون من الغيبية. فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض. تراها الأعين، وتستجليها الحواس، وتتدبرها القلوب. وترى فيها بدائع صنع الله.. والسياق يعرضها- كما هي في صفحة الكون- ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها، وشتى أشكالها، وشتى أنواعها؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال:
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه.
إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}..
والماء كثيراً ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات.
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء}..
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر، ويعرفه الجاهل والعالم.. ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة. فقد شارك الماء ابتداء- بتقدير الله- في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات (إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهباً، ثم صلباً لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع. ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة) ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة، وذلك بإسقاط (النتروجين- الأزوت) من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية، التي تقع في الجو، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر، ليعيد الخصوبة إلى الأرض.. وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة!
{فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه}..
وكل نبت يبدأ أخضر. واللفظ {خضراً} أرق ظلاً، وأعمق ألفة من لفظ أخضر.. هذا النبت الخضر {يخرج منه حباً متراكباً}.. كالسنابل وأمثالها. {ومن النخل من طلعها قنوان دانية}.. وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير. وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر. ولفظة {قنوان} ووصفها {دانية} يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب.. {وجنات من أعناب}.. {والزيتون والرمان}. هذا النبات كله بفصائله وسلالاته- {مشتبهاً وغير متشابه}- {انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه}.. انظروا بالحس البصير، والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه، عند كمال نضجه. انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا، كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجالي الحياة.
{إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}..
فالإيمان هو الذي يفتح القلب، وينير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة، ويصل الكائن الإنساني بالوجود، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوباً مغلقة، وبصائر مطموسة، وفطراً منتكسة، تمر بهذا الإبداع كله، وبهذه الآيات كلها، فلا تحس بها ولا تستجيب.. {إنما يستجيب الذين يسمعون}، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون!
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله، ووحدانيته، وقدرته، وتدبيره، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي، الناطق ببديع صنع الخلاق.
عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود. ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول. وسرعان ما يعقب عليها بالاستنكار. والجو كله مهيأ للاستنكار:
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}..
وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن.. وهم لا يعرفون من هم الجن! ولكنها أوهام الوثنية! والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى؛ وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ! وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل.. دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة.. ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد.. ولابد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيراً.. ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع.. الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله.. وهم من خلقه سبحانه:
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم}!
ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة- تشبه فكرة الشياطين- وخافوا هذه الكائنات- سواء كانت أرواحاً شريرة أو ذوات شريرة- وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها؛ ثم عبدوها!
والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة، في صورة عبادة للجن، واتخاذهم شركاء لله.. سبحانه..
والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد.. يواجههم بكلمة واحدة:
{وخلقهم}..
وهي لفظة واحدة، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور! فإذا كان الله سبحانه هو الذي {خلقهم} فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية؟!
ولم تكن تلك وحدها دعواهم. فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف. بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات:
{وخرقوا له بنين وبنات بغير علم}.
و{خرقوا} أي: اختلقوا.. وفي لفظها جرس خاص وظل خاص؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق!
خرقوا له بنين: عند اليهود: عزير. وعند النصارى: المسيح: وخرقوا له بنات. عند المشركين: الملائكة. وقد زعموا أنهم إناث.. ولا يدري أحد طبعاً لماذا هم إناث! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.. فكلها {بغير علم}..
{سبحانه وتعالى عما يصفون}..
ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة:
{بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}.
إن الذي يبدع هذا الوجود إبداعاً من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف!؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين، وعون الضعفاء، ولذة من لا يبدعون!
ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر.. أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه.. فكيف يكون لله ولد- وليست له صاحبة- وهو- سبحانه- مفرد أحد، ليس كمثله شيء. فأنى يكون النسل بلا تزاوج؟!
وهي حقيقة، ولكنها تواجه مستواهم التصوري؛ وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم!
ويتكئ السياق- في مواجهتهم- على حقيقة الخلق لنفي كل ظل للشرك. فالمخلوق لا يكون أبداً شريكاً للخالق. وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق: كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلاّ أوهام وظنون:
{وخلق كل شيء}..
{وهو بكل شيء عليم}..
وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله خلق كل شيء، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله- سبحانه- بنين وبنات، أو أن له شركاء الجن- وهو خلقهم- فإنه يتكئ على هذه الحقيقة مرة أخرى. لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء، فلا إله إذن غيره، ولا رب إذن سواه:
{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}..
إن تفرد الله سبحانه بالخلق، يفرده سبحانه بالملك، والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق. فهو خالق خلقه ومالكهم، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه. فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله.. فإذا تقررت هذه الحقائق.. الخلق والملك والرزق.. تقرر معها- ضرورةً وحتماً- أن تكون الربوبية له سبحانه. فتكون له وحده خصائص الربوبية- وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يُخضع له ويطاع، والنظام الذي يتجمع عليه العباد- وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها. ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام.